Foto: Canva Pro
نوفمبر 18, 2025

مدنيون بين وطنين: المجتمع المدني السوري في ألمانيا بين الاندماج وإعادة الإعمار

شهدت الساحة المدنية السورية في ألمانيا خلال السنوات الأخيرة تحولاً جذريًا أعاد تشكيل دور الشتات السوري في المجالين الاجتماعي والسياسي معًا. وفي ندوة بحثية موسعة ناقشت مستقبل المجتمع المدني السوري وعلاقته بالسياسات الألمانية، أكدت الباحثة السورية د. رجب أن هذا المجتمع يتميز بتنوعه واختلاف مسارات تشكّله، وبقدرته على التطور المستمر تحت تأثير عوامل من سوريا وألمانيا في آن واحد. ووصفت العلاقة التاريخية بين السوريين في الشتات والنظام السوري بأنها علاقة معقدة اتسمت بالصراع والرقابة العابرة للحدود، وهو ما ولّد شعورًا عميقًا بالخوف وانعدام الثقة قبل عام 2011، حين كانت معظم الجمعيات السورية في ألمانيا تُرى بوصفها ملحقًا رسميًا للنظام، وتنحصر أنشطتها في مجالات ثقافية واجتماعية لا تمس الشأن السياسي.

تحولات ما بعد 2011: وعي سياسي جديد وتوسع غير مسبوق

وتوضح د. رجب أن الثورة السورية شكّلت نقطة تحول فتحت الباب أمام وعي سياسي متصاعد في أوساط السوريين في ألمانيا، حيث ظهرت مبادرات مدنية جديدة دعمت الحراك الشعبي في الداخل، وأسهمت في تعزيز التضامن وتقديم المساعدات الإنسانية، قبل أن تنتقل تدريجيًا نحو مشاريع تنموية في قطاعات التعليم والصحة، وهو تطور تزامن لاحقًا مع أعداد اللاجئين الكبيرة وما رافقها من تأسيس مبادرات تهدف إلى تسهيل اندماج الوافدين الجدد والمشاركة في الشأن العام.

وحسب ما ذكرت د. رجب دراسة العودةفقد أُجري استطلاع شمل نحو 320 مشاركًا في مختلف الولايات الألمانية وكانت نتيجته أن السوريين مشاركون سياسيًا ويهتمون بالاندماج، والعمل، ولمّ الشمل، والتعليم، والتمثيل السياسي. بالنسبة لهم العودة ليست شرطًا للمساهمة في إعادة الإعمار؛ يمكن المساهمة عبر زيارات مؤقتة أو من الخارج. في حال كانت الإقامة غير مستقرة فهذا سيحد من قدرة اللاجئين على تطوير مهارات تساعدهم لاحقًا في الإعمار.

دراسة ألمانية: نحو فهم أعمق للشتات السوري ودوره المزدوج

من جهتها، قدمت الباحثة الألمانية د. بوب أبرز نتائج مشروع بحثي طويل المدى حمل عنوان الشتات وأكثر، تناول نشوء المجتمع المدني السوري في ألمانيا وتنوع أشكال تنظيمه الذاتي. وتشير الدراسة إلى أن المشهد المدني السوري نما بعيدًا عن الأضواء، وأسهم في تعزيز الاندماج داخل المجتمع الألماني، وفي الوقت ذاته حافظ على روابط نشطة مع قضايا سوريا المستقبلية. وتصف بوب هذا المجتمع بوصفه طاقة مزدوجة يمكن أن تعزز الديمقراطية في ألمانيا، وفي مرحلة لاحقة أن ترفد مسار إعادة الإعمار في سوريا بخبرات وشبكات عمل مهنية. وتلفت إلى أن العديد من المنظمات السورية، رغم أهميتها، ما تزال تعاني من محدودية التمويل والاعتماد المكثف على الجهود التطوعية، ما يحد من استدامة مشاريعها وقدرتها على بناء شراكات مؤسسية قوية مع المؤسسات الألمانية.

وتشير بوب إلى نماذج نوعية أثبتت قدرة المجتمع المدني السوري على توظيف القانون الدولي آليةً لتحقيق العدالة، كما هو الحال في المنظمات التي وثقت جرائم الحرب وأسهمت في تحقيق ملاحقات قضائية في ألمانيا، مؤكدة أن فعاليات سياسية وقانونية جديدة ظهرت بعد كانون الأول/ ديسمبر 2024 بهدف تجميع خبرات السوريين في المنفى وربطها مستقبلاً بمسارات إعادة الإعمار في سوريا.

وأشارت الباحثة د. بوب بأنه هناك غياب واضح لتواصل سياسي مع المجتمع المدني السوري رغم أهميته. فالسياسيون يتجنبون الحوار خوفًا من الحديث مع الجهة الخطأفي مجتمع غير متجانس. والتجنيس يُعتبر أداة مهمة لتعزيز إمكانية العودة الطوعية مستقبلًا عبر خلق تنقل آمن بين البلدين. كما أن الجالية السورية الأكثر حصولًا على الجنسية في ألمانيا حاليًا، ويجب النظر لذلك كعنصر يدعم إعادة الإعمار وليس يعطّل العودة.

شبكات مدنية تبحث عن الاعتراف وشراكات أكثر فاعلية

وفي مداخلة أخرى، سلطت المحامية نهلة عثمان الضوء على تجربة عملية تقودها شبكة مدنية تضم عشرات المنظمات غير الربحية. وأكدت أن جزءًا كبيرًا من العمل داخل هذه الشبكات يعتمد على التطوع، وهو ما يعيق ضم جهات جديدة على الرغم من تزايد الطلب على الشراكة والعمل المشترك.

وتشير عثمان إلى مشاركتها الدائمة في فعاليات ومؤتمرات مدنية على مستوى الولايات الألمانية، حيث بات يُتوقع حضور المئات من السوريين في كل فعالية، وهو ما يعكس رغبة متنامية في المشاركة والتنظيم. وترى أن المجتمع المدني السوري اليوم يعمل على مسارين متوازيين، الأول يركز على الاندماج داخل ألمانيا، فيما يهدف الثاني إلى توظيف الخبرات السورية للمساهمة في إعادة إعمار سوريا، ضمن تصور يتجاوز العمل الإنساني في منطقة واحدة نحو العمل مع خبراء محليين في مختلف المحافظات السورية، بما يضمن مواءمة دقيقة بين الاحتياجات على الأرض وأولويات الفاعلين في ألمانيا. وتؤكد عثمان أهمية بناء قنوات تواصل مؤسسي منتظم بين الحكومة الألمانية ومنظمات السوريين، ودعم سياسات تمكنهم من المشاركة المدنية وتمنح أجيالهم الشابة شعورًا بالأمان والانتماء.

وأضافت السيدة عثمان بأن: “الاتصالات بين السلطات الألمانية ومنظمات الجالية السورية قليلة جدًا مقارنة بحجم القرارات التي تُتخذ بشأن مستقبلهم. فالسوريون يواجهون صعوبات بيروقراطية كبيرة: بطء الاعتراف بالشهادات، صعوبة الحصول على تصاريح عمل، فهناك أطباء ينتظرون لسنوات قبل السماح لهم بالعمل. كما يتعرض أطفال سوريون لمضايقات كلامية في المدارس من قبيل: ارجع إلى بلدك, ما يؤثر على شعورهم بالانتماء. وهناك سوريون فقدوا أي أساس للحياة في سوريا، ولا يعرفونها لأنهم خرجوا منها صغارًا.”

وتدعو السيدة عثمان إلى: “حوار مباشر ومنهجي مع منظمات الشتات السوري في ألمانيا، وإلى تسريع التجنيس لمن ينتظر منذ سنوات. وإيجاد آليات عمل وتدريب مشتركة بين ألمانيا وسوريا مستقبلًا. وعقد اتفاقيات تتيح عودة مرنة مع إمكانية الرجوع إلى ألمانيا(تصور قريب من النموذج التركي).

رؤية للعودة الطوعية بعيداً عن التوظيف السياسي للملف

أما الصحفي ماجد البني، فقدم مداخلة بحثية استعرض فيها أبرز خلاصات استطلاع حديث شمل سوريين من خلفيات قانونية واجتماعية متباينة، حيث بيّن أن أغلبية المشاركين لا يرون الظروف الحالية ملائمة لعودة آمنة إلى سوريا، مؤكدًا أن العودة لا يمكن أن تتحقق دون ضمانات أمنية وعدالة انتقالية واستقرار اقتصادي.

ويرى البني أن كثيرًا من السوريين يعيدون تعريف علاقتهم مع وطنهم الأصلي عبر نموذج مزدوج: الاندماج طويل الأمد في ألمانيا مع الحفاظ على روابط معنوية متجذّرة مع سوريا، في وقت يشعر فيه جزء من الجيل الشاب بأن تمثيله السياسي غير كافٍ سواء من الأحزاب الألمانية أو من المنظمات السورية، مؤكدًا وجود فجوة بين تجارب الشتات السوري القديموالشتات الجديدتتطلب آليات أكثر شمولًا لضمان المشاركة الفعّالة في الحياة السياسية والاجتماعية.

وفي ختام النقاش، شدد المتحدثون على ضرورة الاعتراف بالدور الفريد للمجتمع المدني السوري في ألمانيا، وعلى أن أي حديث عن العودة يجب أن يظل محكومًا بمبدأ الطوعية المضمَونة، لا بدفع سياسي أو خطاب ضاغط. واتفق المشاركون على أن العلاقة بين البلدين يمكن أن تتطور نحو نموذج يسمح بحركة آمنة ومتوازنة، يساهم فيها السوريون بخبراتهم في إعادة إعمار بلدهم، من دون فقدان المكتسبات المدنية التي حققوها في ألمانيا خلال السنوات الماضية.

Amal, Frankfurt!
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.