أخذت القطار متجهاً من مدينة أخن، مدينة جميلة تقع في غرب المانيا عائدا إلى منزلي في دوسلدورف وعلى وجهي ابتسامة عريضة كان قد رسمها موظف الموارد البشرية في إحدى أكبر شركات السيارات بعد قبولي في الوظيفة التي تقدمت لها. عزمت شراء باقة من الورود قبل وصولي إلى المنزل أقدمها لزوجتي التي طالما وقفت بجانبي ودعمتني أثناء دراستي الجامعية وأبلغها بأني قد قُبلت في الوظيفة. سوف ننتقل إلى مدينة أخرى! إلى منزل أكبر وأجمل! ذهبت بخيالي بعيداً إلى ذكرياتي المستقبلية وخططت إلى إجازة قد نقضيها معاً في بلجيكا كونها لا تبعد سوى ساعة ونصف بالسيارة عن مدينة اخن مع زوجتي و أطفالي، ابني و ابنتي.
تخبطت الذكريات ما بين المستقبل والماضي. تذكرت معانتنا أنا وعائلتي وهروبنا من سوريا. ملامح القهر والذل طفت إلى سطح الذاكرة التي كانت أوروبا كفيلة بدفنها لفترة طويلة. تذكرت رحلة البحر المرعبة وكيف كانت أمي تدندن في أذني لتطمئنني بأنه ما من شيء يدعو للخوف مع أني كنت اراه مرسوماً في عينيها وهي متشبثة بي. كانت أمي قد ألبستني ملابس جديدة كان من المخطط أن ألبسها في العيد، ولكن أصرت ان أرتديها قبل رحلة البحر حتى نظهر في مظهر لائق امام الأوروبيين!
أذكر ابي وكيف كان التعب قد رسم خطوط العمر على وجهه مهموماً سارحاً يوحي بالصلابة كأنه قطعة من الخشب نستطيع أن نتمسك بها إن غرق القارب المهترئ. اعتقدت أن أبي قد فقد قدرته على الكلام بسبب ما عاناه ليوصلنا إلى بر الأمان. إلى بلد يضمن فيه مستقبلاً جيداً لي ولإخوتي. كنت منذ ان وصلت الى المانيا أبذل قصارى جهدي حتى لا يضيع تعبهم وما عانوه لنصل إلى هنا. فقررت قبل أن أذهب إلى منزلي أن أطرق بابهما وأجلس معهما قليلا نستذكر الماضي وأحظى بالقليل من الحب.
نزلت من القطار
تعثرت
ارتطم رأسي بالرصيف وأحسست ببعض الرطوبة تداعب خصل شعري
حاولت جاهداً فتح عيني لأجد نفسي في الثالثة من العمر، مرمياً على شاطئ بودروم بثياب العيد المتسخة ألفظ انفاسي الأخيرة محاولا الصراخ بكلماتي الطفولية غير المفهومة.. أعيدوني إلى أحلام أهلي.. ولكن صوتي لم يخرج أبداً!
ماذا تغير؟
كتبت هذه القصة القصيرة بعد الصور الصادمة لإيلان كردي التي حركت العالم أجمع. الصور التي كانت سبباً لفتح أوروبا، أو ألمانيا تحديداً، الأبواب على مصراعيها للاجئين. وأحد الأسباب التي دفعتني أيضاً إلى اللجوء. لم أكن أعرف عن أوروبا إلا ما كان يصدره الإعلام الأوروبي للعالم الخارجي. التناغم والإحترام. الإنسانية والسلام. ولم أكن أعرف عن ألمانيا سوى سياراتها وفريق كرة القدم. ولكن الآن وبعد مرور ثمانية أعوام، ماذا تغير؟
يوم اللاجئ العالمي!
تحدثنا في الاجتماع الأسبوعي عن مخططات الأسبوع والمواضيع التي يجب أن نتناولها في الأيام المقبلة. على الأجندة يصادف اليوم، يوم اللاجئ العالمي الذي أقرته الأمم المتحدة وعلينا أن نتحدث عنه. على الرغم أن معظمهم أصبحوا من حملة الجنسية الألمانية، إلا أن مشروع أمل قائم كلياً على صحفيات وصحفيين من دول اللجوء. كما أن الشريحة الأكبر من قراء ومتابعي مشروع أمل هم أيضاً من دول اللجوء. لهذا السبب أكتب لكم هذه السطور. ولكن إن كنتم تتنظرون أن أحتفي بكم، من لاجئ إلى لاجئين آخرين، أو أثني على أوروبا وسياساتها فربما لن تكون كلماتي ما تنتظرون.
هل تشعرون بالأضواء؟
تتحفنا الأمم المتحدة بأيام للمناسبات العالمية على مدار العام. اليوم العالمي للدراجات الهوائية (3 حزيران – يونيو)، اليوم العالمي لسمكة التونا (2 أيار – مايو)، اليوم العالمي للطيور المهاجرة (13 أيار – مايو). وأخيراً اليوم المميز، يوم اللاجئ العالمي. من المفترض أن “يسلط هذا اليوم الضوء على عزيمة وشجاعة الأشخاص المجبرين على الفرار من أوطانهم هرباً من الصراعات أو الاضطهاد. ومناسبة لحشد التعاطف والتفهم لمحنتهم والاعتراف بعزيمتهم من أجل إعادة بناء حياتهم”. هل تشعرون بالأضواء من كل حدب وصوب؟ هل غرفتم من صناديق التعاطف المتراكمة؟ وهل صدقتم شهادة الاعتراف بالعزيمة من مركز البلدية زميلاتي وزملائي اللاجئات واللاجئين؟ مبارك عليكم اليوم؟ كل عام وأنتن لاجئات وأنتم لاجئين؟ كيف نحيي بعضنا البعض اليوم في يوم اللاجئ العالمي؟
نستطيع الأكل بالشوكة والسكين!
يبدو لي يوم اللاجئ العالمي، يوم إضافي ليشعر مواطنو دول العالم “المتحضر” بالأفضلية والتفوق – مرة أخرى – والشعور بالرضا بسبب فعل الخير. ولكن بسبب كارثة غرق قارب اللاجئين قبل أيام من هذا اليوم الفضيل، يبدو أن الحكومات تعمل حرفياً بمنطق “عميل منيح وكب بالبحر”. أعتقد أن مفهوم يوم اللاجئ العالمي يجب أن يتحول من تسليط الضوء على إنجازات اللاجئين والشعور بالدهشة من قدرتنا على العمل في مجالات الحياة الطبيعي كأي إنسان طبيعي من العمل كأطباء أو مهندسين أو صحفيات أو سائقي باصات أو حتى الأكل بالشوكة والسكين. يجب أن يتغير المفهوم لإلحاق العار بالأمم المتحدة التي فشلت بإيقاف مسببات اللجوء على مر العقود السابقة. بسبب الاضطهاد والتمييز الممنهج الذي يمارس على اللاجئين من كل مكان وفي كل مكان. بسبب تحول اللاجئين إلى مساحة تشبه سوق كرة القدم وتحولهم إلى بطاقة يتاجر بها الجميع.
لا فضل لأحد عليكم
في النهاية، كيف نشعر نحن – من يعنينا الأمر – حول هذا اليوم؟ ماذا نستحق؟ أقتبس هنا من الصديقة والزميلة تغريد دواس ما كتبت مسبقاً: ” هل تستحق أوروبا كل هذا؟ هل تستحق أن نغرق ونموت ويتم بيعنا وشراؤنا في طريق الوصول إليها؟ الإجابة بالنسبة لي هي لا، لا تستحق، لكن من يستحق هو نحن. نحن من نستحق أن نغامر لنعيش حياة طبيعية، ألا نموت تحت قصف، ألا يتم التنكيل بنا أحياء أو أمواتاً، أن نبقى على قيد الحياة في بيت صغير، وهذا أضعف الإيمان.” أضيف على ذلك، أشعروا بالفخر بكل ما أنجزتموه وحققتموه في السنوات السابقة فأنتم لا تحتاجون لأيام الأمم المتحدة. إنجازاتكم أنتم فقط من تشكرون عليها ولا فضل لأحد عليكم وكفاحكم.