بعد جولة فريق أمل برلين في بريمن والمناطق المحيطة بها، دار نقاش بين الزملاء والزميلات حول إيجابيات وسلبيات المعيشة بالمدن الصغيرة عوضاً عن المدن الكبيرة. بشكل شخصي، لم أستطع يوماً تخيل الحياة في مدن صغيرة يغلب عليها الروتين ولا أحداث أو مفاجئات تمر بك بشكل يومي. عشت في مدن يسكنها الملايين. دمشق، الرياض، دبي، إسطنبول وأخيرًا برلين المجنونة التي يمر كل يوم بها كمغامرة مفعمة بالأحداث.
ولكن مؤخراً تراودني بعض الأفكار من وقت لآخر للانتقال إلى مدينة أصغر وأقل ازدحاماً. مدينة لا يخترق فيها صوت صافرات الشرطة والإطفاء والإسعاف أذنيك كل خمسة دقائق. مدينة لا تخنقك فيها عوادم السيارات ويتدافع فيها الناس على المواصلات ويبتسم لك فيها الجميع. تدفعني هذه الأفكار إلى زيارة مدن ألمانية صغيرة بشكل عشوائي علني أجد غايتي. أخذتني العشوائية هذه المرة إلى زارلاند.
كلها حيوانات!
زارلاند هي الولاية رقم 15 التي أزورها في ألمانيا من أصل ستة عشر ولاية. في الحقيقة كنت متجهاً إلى Rheinland Pfalz لاجتماع عائلي بإحدى مزارع الخيل في مدينة روكن هاوزن. وبما إن راينلاند بفالز هي أقرب الولايات إلى زارلاند وتبعد ساعتين فقط، فلم لا؟ لحسن الحظ فإن صديقة للعائلة تمتلك منزلاً جميلاً في إحدى القرى بولاية نهر الزار وسط الغابات، وعادة ما تؤجر الغرف للهاربين من ضوضاء المدن والراغبين بقضاء فترات نقاهة. انطلقنا إلى زارلاند بالسيارة وكان الطريق ساحراً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. طرق جبلية، غابات ومروج خضراء على مد البصر. حتى أن بعض الغزلان كانت تقفز على أطراف الطريق بمشهد يشبه أفلام الكرتون! لا بأس.. في برلين تتسابق الفئران في محطات القطارات.. كلها حيوانات!
منزل تغطيه الورود
كان المنزل هو المفاجئة الكبرى! يشبه ما نشاهده بالأفلام، أعمدة حجرية تغطيها الورود الحمراء. مرج أخضر في الساحة الأمامية يعيش فيه “برونا وإيمي”، الخاروفان الظريفان اللذان يلقيا التحية على الجميع. تحيط الغابات بالمنزل وتسمع صوت جداول المياه التي تبعث الطمأنينة حتى للقطة التي تنام عند مدخل البيت! ورثت أنجليكا الستينية المنزل من والدتها التي ورثته بدورها من والديها في قرية صغيرة تدعى Waldhölzbach. تسكن هناك مع قطها وحيواناتها بالإضافة إلى الزوار الذين يستأجرون غرف المنزل. أنجليكا لطيفة للغاية وتهتم بالتفاصيل لأبعد الحدود. المنزل مليء بالديكورات وقطع الأنتيك، الكتب، النباتات والروائح الجميلة. نحن هنا الآن.. ماذا يمكننا أن نفعل؟
تجارب جديدة
من المنزل مباشرة هناك طريق خاص إلى الغابة المجاورة بين جداول المياه. تشبه غابات ألمانيا بعضها البعض، ولكن ما يميز الغابة القريبة من مكان إقامتنا هو جداول المياه والأنهار والبحيرات الصغيرة. بعد 40 دقيقة من المشي وصلنا إلى حوض من المياه يصب فيه أحد الجداول. على ذمة أنجليكا واللوحة الموجودة قرب الحوض فإن المشي في الحوض الذي تملؤه المياه الباردة جداً لمدة 30 ثانية له فوائد صحية كثيرة ومفيد جداً للأوعية الدموية. تجربة جميلة وغريبة من نوعها ولكني لا أنصح من يكرهون المياه الباردة بتجربتها! في ذات الغابة هناك طريق خاص لمن يحبون المشي حفاة الأقدام. هناك رفوف لوضع الأحذية (لن يسرقها أحد فما من أحد هناك) ومن ثم مسارات من الخشب الرقيق والبحص، حتماً يعتقدون أن المشي في الغابة دون أحذية له فوائد ما، روحية أم صحية لا أدري، ولكني أحب تجربة الأشياء الغريبة والمرات الأولى.
المشي “فوق” الغابات
هناك وقت للاستجمام ووقت للسياحة والترف والدلال. أخذنا السيارة واتجهنا إلى Baumwipfelpfad Saarschleife. وهو مسار مرتفع من الجسور بين الأشجار العالية يتيح للزوار رؤية الغابات من أعلى. ولأننا على ارتفاعٍ عالٍ بمحاذاة قمم الأشجار، كان بالإمكان مشاهدة أنواع الطيور المختلفة والسناجب. حتى أننا كنا محظوظين للغاية لنراقب غزالاً صغيراً من الأعلى يمشي بين الشجيرات! بنهاية المسار، هناك هيكل بارتفاع 42 متر يمكن من قمته مشاهدة نهر الزار أثناء انعطافه وتشكيلة ما يعرف *بحدوة الحصان* في منظر يحبس الأنفاس. إن كان لديكم رهاب المناطق المرتفعة فربما عليكم التفكير مرتين قبل الصعود إلى الأعلى. في النهاية لم تخيب الـ 12 يورو سعر البطاقة الآمال.
يا سمك يا مرقط
مع نهاية النهار وبعد العودة إلى المنزل ذهبنا إلى أحد المطاعم النادرة في القرية. Forellenhof Waldhölzbach. مزرعة سمك السلمون المرقط، هكذا كانت ترجمة غوغل! المميز في المطعم أنه يطل على بحيرة صغيرة يتم تربية السمك فيها. وبعد الطلب تقوم الطباخة بالخروج إلى البحيرة وإلقاء شبكة الصيد وإخراج سمكة طازجة لكم!
نصائح أخيرة
زارلاند ولاية هادئة وجميلة، طبيعتها ساحرة وسكانها لطفاء. حتماً سأقوم بزيارتها مرة أخرى كما عليكم أنتم أيضاً زيارتها. من الأفضل زيارة الولاية بالسيارة، خصوصاً إن كنتم تنوون البقاء بإحدى القرى الصغيرة أو في منزل أنجليكا، فالمواصلات شحيحة جداً والطرقات الجبلية غير مناسبة للدراجات الهوائية. لا تنسوا أيضاً المستحضرات المضادة للبعوض وحشرات القراد. ولكن لا أعتقد أني سأرغب بالعيش هنا لفترات طويلة. ربما ستكون بريمين الولاية الأخيرة في لائحتي هي المدينة المنشودة، أما الآن فأعتقد أن برلين ما زالت المكان الأنسب للعيش، بالنسبة لي على الأقل!
- جميع الصور من تصوير أحمد قلعجي