“ما زال القلب والروح هناك”.. هكذا كان جواب التونسي “عبد المجيد”، الذي التقيناه بالصدفة أنا وزميلي عبود على طاولة مقهى في مدينة سالزغيتر. عبد المجيد يقيم في تلك المدينة الصغيرة منذ 30 عاماً تقريباً. لكن حنينه لتونس، ما زال حاضراً ولم يغب، مع أنه متزوج، ولديه أحفاد هنا في ألمانيا. الصدفة التي جمعتنا مع عبد المجيد، جاءت بعد جولة لنا في ولاية نيدر ساكسن. ومن ضمنها زيارة لمتحف الهجرة الألماني بمدينة بريمر هافن.
ينابيع الحنين
لا تخلو جلسة مع أصدقاء من سوريا، أو عرب في برلين، أو في أي مدينة أخرى، من الحديث عن هناك. تلك البلاد التي تركناها مُجبرين، رغم وجود الرغبة بالهجرة حتى قبل الحرب. إلّا أن تركنا لها ومغادرتنا كان رغماً عنّا. ولكلٍ منّا أسبابه. فالبعض غادر لتحسين أوضاعه بعد انسداد كل أبواب الرزق في بلده الأم. والآخر بحثاً عن مجالات علمية أوسع. وهناك من غادرها لأنها رغم سعتها، ضاقت عليه وعلى حلمه بالتغيير. لكن أكاد أجزم، أن الحنين، هو القاسم المشترك بيننا جميعاً.
باللغة الألمانية يُترجم الحنين إلى الوطن بكلمة “Heimweh” وهي دمج بين كلمتين، Heim وتعني الوطن، وweh وتعني الألم. وفي اللغة العربية، كلمة حنين تعني صوت الأم لولدها، وفي سياق آخر، تعني صوت الشخص الذي في فؤاده نزعة ألم. إذن فالحنين مرتبط بالألم، وكل المنفيين مصابون به. لأنه لا يتوقف، فرائحة طعام، كفيلة بأن تُقصّر المسافة بينك وبين هناك (الوطن) مهما طالت. وأغنية، قد تفتح عليك أبواباً، أغلقتها بأقفال كثيرة، ورميت المفاتيح في قاع البحر.
قلتها مرّة في مقابلة بُثت على قناة العربية، الحنين عندنا نحن المنفيين، مثل ينبوع دائم التدفق، لا تحدّه شطآن، ولا تقف بوجهه جبال مهما تعالت!
نوافذ الحنين في متحف الهجرة
بعد نهاية الجولة بمتحف الهجرة الألماني. سارت بنّا المرشدة في ممر له أربعة شبابيك مقوّسة. توقعت أنه مجرّد ممر لتنتقل بين قسمين من المتحف. لكنه لم يكن كذلك! أستطيع أن أقول أنه لا يوجد شيء عبثي في هذا المتحف الذي تعايش فيه تجربة المهاجرين الألمان الذين غادروا سواحل بحر الشمال متوجهين إلى الأرض الجديدة، أميركا.
عايشنا سكنهم على متن السفينة، مترافقاً مع الأصوات التي كانوا يسمعونها آنذاك. عايشنا وقوفهم بانتظار السفينة. وشاهدنا الأدوات التي كانوا يستخدمونها. وحملنا أسماء بعضهم، حتى تكون تجربة التعايش متكاملة.
لنعد لقصة الممر، والذي سأسميه “نوافذ الحنين”. في النافذة الأول، والتي تطل كبقية النوافذ على المكان الذي تنطلق منه في جولة المتحف. وهو الرصيف الذي يتجمع عليه المهاجرون للصعود للباخرة مع أمتعتهم. ترى الرصيف واضحاً تماماً. وفي النافذة الثانية، تصبح صورة الرصيف أقل وضوحاً، وهكذا تتلاشى الصورة في النافذة الثالثة، وفي الرابعة لا ترى إلا جداراً من الطوب.
بحسب المرشدة النوافذ تمثل الحنيين والشوق، وصورة الوطن في ذهن المهاجرين آنذاك. فبعد المغادرة تكون صورته حاضرة وبقوة. وبكل تفاصيلها. وبعد فترة تبدأ الصورة بالتلاشي حتى تختفي تماماً.
ربما يحدث ذلك مع أجيال المهاجرين. لكن مع الجيل الأول، جيل الصدمة الأولى. صدمة الأرض الجديدة، والمجتمع الجديد، واللغة الجديدة، صدمة الرحيل. لا أعتقد أن صورة الوطن تتلاشى..
متحف الذاكرة
يقول محمود درويش في إحدى قصائده:
الحنين استرجاع للفصل الأجمل
في الحكاية: الفصل الأول المرتجل بكفاءة البديهة
هكذا يولد الحنين من كل حادثة جميلة
ولا يولد من جرح
فليس الحنين ذكرى
بل هو ما ينتقى من متحف الذاكرة
الحنين انتقائي كبستاني ماهر
وهو تكرار للذكرى وقد صُفيت من الشوائب..
وأنا معه تماماً فيما قاله. نحن لا نحنُّ لمساوئ الوطن، لا نحنُّ للانتظار في طوابير الغاز والخبز والموت. ولا نحنُّ لفروع المخابرات، ولا للسجون. لا نحنُّ للواسطة، والرشوة، والفساد، والفقر. لا نحنُّ لحواجز التفتيش، لا نحنُّ للسلطة والبسطار. بينما كلنا حنين، لجلسة على السطح، كلنا حنين، لمشوار بين حقول القرية، أو في حارات مدننا العتيقة. كلنا حنين لأهلنا بأعيادهم، جمعاتهم الجميلة، كلّنا حنين لرغيف خبز ساخن. كلنا حنين لضحكات الراحلين، الذين خطفهم منّا الوطن! صحيح أن “متحف الذاكرة” مليء بالأشياء السيئة، لكن هناك دائماً ما نحنُّ إليه!