في محطة القطار الذي تأخر أكثر من ربع ساعة عن موعده، لم يكن التحديق في وجوه أكبر عدد من المنتظرين ليشكل أي نوع من أنواع العزاء لشخص جدوله مزدحم بالمواعيد مثلي، ومع ذلك، كان هذا أفضل ما يمكن أن أقوم به خلال تلك الدقائق التي مرت ببطء. ففي ألمانيا، البلد المليء بالمهاجرين، محطة القطار واحدة من أماكن قليلة يمكنك فيها أن ترى عدداً كبيراً من الناس من مختلف الجنسيات، ومؤخراً كنت مهتمة بقضية الاندماج التي لها علاقة بهذا.
كان الوقت صباحاً، والجو بارداً، وأغلب المنتظرين في طريقهم إلى العمل. لبرهة فكرت في ذلك، وفيما إذا ستكون ردة فعلي هي نفسها لو كنت في اليمن، ثم تذكرت بأنه لا يوجد قطارات في اليمن أصلاً، وفضّلت أن أرى كيف سيتعامل الآخرون مع هذا الأمر.
لا فائدة من الغضب
وقعت عيني على رجلين الأول كان يبدو عليه القلق، ينفخ ويتأفف ويتمتم بينه وبين نفسه، فيما لم تبدُ على الثاني أي علامات انفعال. شدّني هذا الموقف كثيراً، وخاصة بعد أن اتّضح لي أن أحدهم مهاجر، والآخر ألماني. زادت درجة اهتمامي، واستمرت مراقبتي لردة الفعل، وعندما وصل القطار أخيراً، جلستْ إلى جواري سيدة في منتصف الستينات وشابة في الثلاثينات من العمر. تبادلنا الحديث، وأخبرتهما أنه كان لدي موعد وقد فاتني، وعرفت أنهما في غاية الانزعاج أيضا، لكنهما اتفقتا على أن لا فائدة من الغضب. “لا شيء سيتغير، والغضب لن يجعل القطار يأتي، فقط سوف أزيد من حال التوتر لي وللحاضرين” قالت السيدة واتفقت معها الشابة أيضاً.
الاندماج قضية يجب أن يُعاد النظر فيها
ثقافة التعبير عن الاستياء في المانيا تختلف عن تلك التي نعرفها. المجتمعات التي جاء منها أغلب المهاجرين مجتمعات عاطفية، لذا أغلبهم لا يستطيع السيطرة على مشاعره بسهولة، ويميل، عوضاً عن ذلك، إلى التعبير عنها علناً. هذا يشرح إلى حد بعيد لماذا يعيش الأتراك في مجتمع وحدهم، والعرب في مجتمع آخر، ولماذا أصبحت ألمانيا عبارة عن كنتونات مكونة من مجتمعات صغيرة منعزلة ومتقوقعة على نفسها. “الأمر يعود إلى فوارق ثقافية، وهذه الحقيقة يجب أن تشكل مدخلاً مهماً لأي جهود قادمة تسعى لتحقيق الاندماج القضية التي ينبغي أن يعاد النظر فيها” قلت لنفسي.
كيف تستخدم المعلقة!
بالنسبة للمهاجرين واللاجئين هناك الكثير من الأمور المذهلة في ألمانيا وفي ثقافتها وسياساتها، لكن ليس منها التعامل معهم وكأنهم قادمون من كوكب أخر، أو من كهوف ومغارات مجهولة لدرجة التعامل معهم على أنهم لا يعرفون كيفية استخدام الملعقة. أتذكّر عند قدومي إلى هنا أن مكتب الاندماج نظّم دورة تدريبة عن أمر من هذا القبيل، لدرجة أن الجميع انزعج والبعض غادر القاعة. هناك فجوة لم تُردم حتى الآن وقواسم مشتركة لم تخلق بعد.
بدلاً من إخبار المهاجرين واللاجئين كيف يقومون بأمور كانوا يمارسونها بشكل عادي في بلدانهم، سيكون من الأفضل تثقيف العاملين في مكاتب الاندماج الحكومية أو المتطوعين وتزويدهم بخلفية عن البلدان التي يأتي منها المهاجرون عادة. إن كسر الصورة المغلوطة والنمطية بدلاً من تعزيزها، أمر هام كي لا تجعل الآخر يشعر بالإساءة وتدفعه للمساهمة في خلق بيئة مساعدة للجميع.
شرح تركيبة المجتمع الألماني
لا يمكن لأحد أن يشكّك بموقف ألمانيا، أو ينسى كيف فتحت ذراعيها للاجئين العرب والمسلمين وحالياً الأوكرانيين. مستوى الرعاية التي تقدمها ألمانيا للفرد تفوق التصورات، ومقارنة بدول أوربية أخرى من حيث تسهيلات حق اللجوء ومن ثم الحماية للفارين من الصراع بلدانهم تأتي أولاً. كما لا يمكن نسيان مشهد استقبال المواطنين الألمان للاجئين السورين في محطات القطارات بالورود والأكل والماء في 2015.
لكن الاندماج ليس فقط الانخراط في سوق العمل أو تعلم اللغة. أعرف أصدقاء يعيشون في ألمانيا ويعملون في مناصب ووظائف مرموقة لكن لا توجد لديهم روابط حقيقية بالمجتمع الألماني وهذه الظاهرة يجب أن تناقَش بكل شفافية، وأعتقد أنه من المفيد شرح طبيعة تركيبة المجتمع الألماني للقادمين الجدد.
الاندماج مثل الحب
يمكنني القول إن الاندماج مثله مثل قصص الحب تماماً، الفشل فيها أقرب من النجاح إذا لم يكن هناك رغبة من الطرفين، كما أن مستوى معين من المعرفة لكل طرف عن الآخر يكون دائماً صحياً ومفيداً. وفي الوقت الذي تبذل فيه الحكومة الألمانية جهوداً كبيرة، وتهدَر ميزانية ووقت وجهد بدون تحقيق نتائج واضحة، تصبح مشاركة الجميع في بذل الجهود أمراً لا يمكن التقليل من شأن أهميته، خاصة وأن فعاليات التوعية التي تقام للاجئين تركز على “تثقيفهم” حول أمور يعرفونها مسبقا، أو لا تساعد في تحقيق أي اندماج مثل: أهمية فصل المكواه عن الكهرباء بعد الانتهاء من كوي الملابس، وإطفاء البوتغاز بعد الانتهاء من الطبخ، ولماذا عليك ارتداء حذاء عند دخول الحمام، وأهمية إغلاق الشباك قبل الخروج من البيت!