Photo: Khalid Al Aboud/Amal
يونيو 26, 2025

من صلّى لهتلر؟ القساوسة الذين باركوا الطاغية ولم يُحاسَبوا

في زنزانة ضيقة بسجن تيغل في برلين، كتب القس الشاب ديتريش بونهوفر رسائله الأخيرة قبل أن يُعدم بأمر من أدولف هتلر، الذي لم تمضِ أسابيع حتى انهار نظامه. لم يكن بونهوفر مجرد معارض سياسي، بل أصبح رمزًا لما تبقى من ضمير حي داخل الكنيسة الألمانية، التي صمت معظم قادتها أو انحازوا إلى الطاغية.

تلك الحقبة السوداء من تاريخ الألمان، والتي يرددون في ذكراها السنوية الشعار الشهير “Nie Wieder” (لن تتكرر أبدًا)، لا تزال محل جدل حتى في ذكراها الثمانين. ومع ما يجري في سوريا، خاصة التصريحات الأخيرة لأحد البطاركة المنتشرة صوره إلى جانب فلاديمير بوتين والمخلوع بشار الأسد، تبادر إلى ذهني سؤال حول الكيفية التي تعاملت بها ألمانيا بعد سقوط النازية مع القساوسة الذين ساندوا هتلر وربما صلّوا له علنًا. لأكتشف أن السؤال (بعد ثمانية عقود) ما زال مفتوحًا!

تأليه الطاغية

وفقًا للمصادر المتاحة، دعم عدد من القساوسة الألمان، خصوصًا ضمن الكنيسة البروتستانتية (الكنيسة الإنجيلية الألمانية – Deutsche Evangelische Kirche)، النظام النازي، واعتبروا هتلر “أداة إلهية لإعادة مجد ألمانيا”. وكان هناك تيار واضح يُعرف باسم “الكنيسة الألمانية” (Deutsche Christen)، تبنّى الأيديولوجيا النازية بقوة، وسعى إلى “تطهير المسيحية” من جذورها اليهودية، ومواءمة تعاليمها مع العقيدة العرقية للنظام.

في المقابل، نشأ تيار مضاد عُرف بـ”الكنيسة المعترفة” (Bekennende Kirche)، ضم شخصيات بارزة مثل القس ديتريش بونهوفر، الذي انخرط في مقاومة النظام، وقُبض عليه وأُعدم عام 1945، قبل 21 يومًا فقط من سقوط برلين.

لكن، ماذا عن أولئك الذين لم يُعدَموا؟ القساوسة الذين صلّوا لهتلر ودعوا له من فوق المنابر؟ من حاسبهم بعد الحرب؟

غياب المحاسبة

هنا تكمن العقدة. لم تتم محاسبة معظم القساوسة النازيين، بل بقي الكثير منهم في مناصبهم الكنسية، على الرغم من حملة “اجتثاث النازية” (Entnazifizierung) التي أطلقتها سلطات الاحتلال والحكومة الألمانية بعد 1945. بل إن بعض القساوسة تذرّعوا آنذاك بذات الخطاب الذي نسمعه اليوم من فلول النظام السوري: “لم نكن نعلم بحجم الجرائم”، وهو ما تبنّته الكنائس المؤيدة للنازية كمبرر لمواقفها السابقة.

على المستوى الداخلي، تجنبت الكنائس الألمانية، سواء الكاثوليكية أو البروتستانتية، المواجهة المباشرة مع ماضيها. لم تعترف بدورها في دعم النظام، وسعت إلى تقديم نفسها كضحية بدلًا من شريك، في سردية جماعية حاولت تأطير نفسها كمجتمع متضرر من النازية.

التحوّل

غير أن ستينيات القرن العشرين شهدت تحولات جذرية في المزاج السياسي والاجتماعي في ألمانيا. في تلك الفترة، بدأت بعض الكنائس، خصوصًا البروتستانتية، بمراجعة مواقفها التاريخية. واعترفت الكنيسة في بيان شتوتغارت الصادر عام 1945، بعد انتهاء الحرب بقليل، بـ”الذنب الجماعي في التقاعس عن مقاومة الظلم”. ومنذ ذلك الوقت، بدأ عمل متواصل لإعادة تقييم تلك المرحلة، وتكريم رجال الدين الذين عارضوا النازية ورفضوا الصمت.

التوثيق سبيل للمراجعات التاريخية

اليوم، توجد مراكز أبحاث كنسية وأكاديمية توثق دور الكنائس والقساوسة خلال الحقبة النازية، وتُبرز أسماء المتعاونين كما المعارضين. وتُدرّس هذه القضايا في المدارس والمعاهد اللاهوتية، كجزء من ما يُعرف في ألمانيا بسياسة “ثقافة التذكر” (Erinnerungskultur). وتُصدر بانتظام كتب ودراسات حول القساوسة المتواطئين مع النظام النازي، بالاستناد إلى وثائق أرشيف الكنيسة والمخابرات النازية (الغيستابو). وليس عبثًا أن تُعرف ألمانيا أحيانًا بلقب “أرض الأوراق” (Das Land des Papiers).

لم يُحاسَب القساوسة الذين باركوا الطغيان من فوق المنابر، لكن المدارس الألمانية لا تدرّس أسماءهم اليوم. بل تدرّس اسمًا واحدًا: ديتريش بونهوفر. قس قاوم، وسُجن، وأُعدم. لم يصمت مثل غيره، ولم يلجأ إلى التبرير بعد الحرب. حين تحلّ العدالة، لا تحتفظ الذاكرة إلا بمن نطق بكلمة الحق في وجه الجلّاد.

المصادر المعتمدة:

Amal, Frankfurt!
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.