يتوقف علي عند صورة قديمة على هاتفه: أطفاله الثلاثة، كما تركهم قبل خمس سنوات. “لم تتغير الصورة، لكنهم حتماً كبروا”، يقول. الزمن في غزة لا ينتظر الصور. الرحلة بدأت في نوفمبر 2019، حين وصل الصحفي الفلسطيني علي عليان بخيت إلى ألمانيا بدعوة من قناة “دويتشه فيله”، بعد فوزه بجائزة “أبطال الإعلام” عن فيلم قصير تناول فيه السلامة المهنية للصحفيين في مناطق النزاع، خاصة في قطاع غزة. كانت زيارةً لمؤتمرٍ مهني ليومين فقط. لكن داخله كان يهمس بشيء آخر: ربما هذه فرصتك الوحيدة للنجاة، لإنقاذ عائلتك من حرب قادمة لا محالة.

أثناء المؤتمر في مدينة بون
بداية الرحلة
بعد انتهاء المؤتمر، تقدّم بطلب لجوء. البداية كانت في مركز استقبال بمدينة غيسن، حيث أمضى أسبوعين، ثم تنقّل بين مراكز اللجوء، بلا استقرار. تلقّى الرفض الأول، فطعن فيه، وبدأ الانتظار الطويل. خمس سنوات مرّت قبل أن يحصل على الاعتراف به كلاجئ سياسي في مطلع العام الحالي. خلال هذه السنوات، لم يُسمح لعلي بتعلم اللغة الألمانية، ولا الانتقال إلى منزل. فسجل بمدرسة على حسابه الخاص، ونجح في اجتياز امتحان B1، وعدّل شهاداته الجامعية. يقول علي اليوم أن شعوره بالظلم لم يفارقه. “كيف يُترك إنسان معلقاً كل هذه السنوات؟”
صحفي وناشط
علي لم يكن لاجئاً عادياً. فإلى جانب عمله الصحفي، أسّس في غزة مع زملائه “نادي الإعلام الاجتماعي – فلسطين“، وهي مؤسسة غير ربحية لتدريب الشباب على الإعلام الرقمي وحملات المناصرة. ثلاثة من زملائه المؤسسين سقطوا خلال الحرب الأخيرة، وهم عمر أبو شاويش، هبة العبادلة، وآيات خضورة.

أطفال علي في غزة
مدينة صغيرة وأحلام كبيرة
استقر علي أخيراً في كورباخ، بلدة صغيرة بفرص مهنية محدودة. يفكر دون انقطاع بزوجته وأطفاله الثلاثة، الذين ما زالوا في غزة، ولم يرهم منذ مغادرته. بعد حصوله على الإقامة، بدأ يسعى جاهداً لجمع شمله. يتطلب ذلك خروجهم إلى مصر لإجراء مقابلة في السفارة الألمانية، وهو أمر شبه مستحيل في ظل الحصار والإغلاق المستمر. “كل ما أريده أن أعيش مع أطفالي. لا أطلب شيئاً آخر. خمس سنوات وأنا بعيد عنهم.. يكفي ما ضاع”.
صاروخ يدمر البيت
في أكتوبر 2024، سقط صاروخ مباشر على منزل عائلته. دمُر المنزل بالكامل، وقُتلت شقيقتان له وهما نائمتان. شقيقته الثالثة فقدت قدمها، وشقيقه الرابع أُصيب. أما زوجته وأطفاله، فيعيشون اليوم مع خمس عائلات أخرى في منزل واحد في النصيرات، وسط القطاع. يتقاسمون ما توفر من الخبز. يطحنون المعكرونة لصنع الدقيق. يقول علي: “الأطفال لا يحتملون الجوع. وأنا هنا، أتناول طعامي وأشعر بالغصة. كل شيء متوفر لي وهم يبحثون عن رغيف الخبر. لا شهية لأي شيء”.

منزل عائلة علي بعد تدميره
الغزيون ليسوا أرقاماً
ما يؤلمه أكثر، كما يقول، هو الصمت على ما يحدث في غزة. الحرب في رأيه انتهت منذ زمن. “ما يجري اليوم إبادة جماعية لأهل القطاع. الناس الذين يُقتلون ليسوا أرقاماً، بل أناس لديهم أحلام، يحبون الحياة. لكنهم وُلدوا في سجن اسمه غزة. تخيّل أن يُولد الإنسان ويموت دون أن يركب طائرة أو يغادر حدود المدينة”. علي نفسه لم يركب طائرة في حياته إلا عندما بلغ الرابعة والثلاثين. واليوم، يعيش في بلد يعرف أن غالبية سكانه لا يتابعون ما يجري في غزة. لكنه لا يحمّلهم المسؤولية. “لا ألوم الألمان. أغلبهم متعاطفون. أنا ألوم حكوماتهم فقط.. على الأقل، ليوقفوا إرسال السلاح”.
لاجئ يتمسك بالأمل
رغم كل الخسارات، ما يزال علي متمسكاً بالحياة، يزور حالياً دورة ليكمل تعلم اللغة الألمانية، والعثور على فرصة عمل. ينام ويصحى على أمل واحد: أن يعيش يوماً ما مع أسرته هنا في مكان آمن. أن يعود إلى الكاميرا والقلم، لا ليروي فقط قصص المأساة، بل ليكتب من جديد، دون خوف، دون ظلال، ودون أن ينتظر جنازة أخرى.