يُعد تحديد اللحظة التي تنطلق فيها الثورات عملية معقدة وفقًا للمؤرخين، إذ تتأثر بعوامل سياسية واجتماعية وثقافية وتتبع منهجيات متعددة. منها: التأريخ الرمزي، يعتمد على حدث مفصلي مثل سقوط الباستيل عام 1789 في الثورة الفرنسية. أما التأريخ التدريجي، فينظر إلى الثورة كعملية ممتدة عبر الزمن، وليست مجرد لحظة انطلاق. ويُعد المسار الذي سلكته الثورة الروسية بين فبراير وأكتوبر 1917 مثالًا واضحًا على ذلك. وهناك من يتبنى منهجية التحديد وفق الرؤية السياسية، وهذا ما شهدناه في الثورة الإيرانية بين عامي 1977 و1979 بين اليساريين والملالي. لذا، ليس من المستغرب أن يتجدد الحراك بشأن ذكرى انطلاقة الثورة السورية كل عام. لكنه اكتسب هذا العام بعدًا أكثر تصعيدًا، إذ يمثل أول ذكرى بعد التحولات السياسية الأخيرة، في ظل سعي أهل حوران للحفاظ على رمزية تاريخ تظاهرهم وأول شهدائهم كتاريخ رسمي لانطلاق الثورة.
فلماذا أُصر على “ثمنطعش” ؟ لو اتبعنا منهجية التاريخ الرمزي (وهنا لا أنكر أبداً أي تضحيات قدمتها المدن السورية الثائرة)، لنبدأ بالرمز الأول، الشهداء. في 18 آذار/ مارس، سُجل أول شهيدين في الثورة السورية، هل هناك رمزية أكثر من الدم السوري الذي من المفروض الآن أن يُصبح الأغلى، كونه كان خلال الـ14 سنة الماضية الأرخص في بورصات الإنسانية (العوراء)..
وبالنسبة للأشخاص الرموز، الذين باتوا أيقونات، مع التأكيد على أن كل دم وكل تضحية بُذلت على طريق الحرية هي أيقونة، فمن درعا حمزة الخطيب، ومن درعا أحمد الصياصنة، ومن درعا قيصر، وفي درعا كُتبت العبارة التي تصدرت صفحات صحف عالمية “اجاك الدور يا دكتور” أهناك خلاف على هذه الرموز؟ أم يا درعا شو كان بدنا بالصرعة..
ولو اعتمدنا على الأهازيج والأناشيد التي رددها المتظاهرون منذ السنوات الأولى للثورة وحتى اليوم، لوجدنا أن اسم درعا حاضر بقوة، إلى جانب مدن سورية أخرى شكلت رموزًا للحراك الثوري. فدرعا هي التي كرّهت النظام بيوم الجمعة. ومن درعا طلعت ثورة تنادي للحرية يا وطنا يا غالي.. وختامها ارفع راسك فوق انت سوري حر، التي أصبحت النشيد الرسمي للمنتصرين.
تعرضت درعا للغبن، مثلها مثل معظم المدن الثائرة في البدايات. وادعى النظام، أنها خزان حزبه. لكنها أول من انفجر بوجهه، وشكّلت نقطة تحول فارقة في مسار الثورة. وفاجأت النظام والكثير من السوريين.
يبدو أن هذا قدر الأحداث التي تغيّر مجرى التاريخ. إذ تحتفل برلين بذكرى سقوط جدارها في يومين مختلفين، بسبب التباين في الروايات التاريخية للأحداث. فيوم 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، هو التاريخ الأكثر شهرة، فيه فُتحت الحدود بين شقي برلين عن طريق الخطأ، بعد إعلان مسؤول في ألمانيا الشرقية عن تخفيف قيود السفر خلال مؤتمر صحفي. فتدفق آلاف الألمان من برلين الشرقية إلى الغربية، وانهار الجدار.
وعلى الرغم من أن 9 نوفمبر يمثل لحظة سقوط الجدار، إلا أن ألمانيا أصبحت تحتفل رسمياً في 3 تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام، معتبرة إياه العيد الرسمي، ففي 3 أكتوبر من عام 1990 توحدّ شقا البلاد بعد عقود من الانقسام.
ولدى الألمان مبرراتهم باعتماد 3 أكتوبر بدلاً من 9 نوفمبر. ففي 9 نوفمبر من عام 1938، وقعت أحداث ليلة الكريستال، والتي شهدت مذبحة بحق اليهود على يد النازيين. لذلك، اختارت ألمانيا 3 أكتوبر كعيد رسمي للوحدة. وللحورانة أيضاً مبرراتهم في اختيار “ثمنطعش”، ففي هذا اليوم خطّت دماء شهداء المسجد العمري، أول سطر في بيان الثورة، بأنه لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس.. والآن الرئيس/ المجرم هرب، وثمنطعش لهذا العام طعم مختلف.