بين انطلاقته في كانون الأول/ ديسمبر 2021 وآخر تقييم له قبل انهيار حكومة تحالف “إشارة المرور”، فقد الائتلاف الحاكم المكوّن من الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) وحزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر (FDP) ما مجموعه 32 نقطة مئوية من التأييد الشعبي. وهو أكبر تراجع لحكومة ائتلافية منذ عام 1998، وفقاً لتحليل بيانات استطلاع ARD-DeutschlandTrend الشهري.
انطلاقة متفائلة وتحديات غير متوقعة
عند توليها الحكم، لم تكن حكومة “إشارة المرور” تعاني من سوء التقدير الشعبي. فبعد الانتخابات البرلمانية في أيلول/ سبتمبر 2021، أيّدت أغلبية الألمان هذا الائتلاف بقيادة أولاف شولتس. وكما يقول أستاذ العلوم السياسية Ulrich von Alemann من جامعة هاينريش هاينه في دوسلدورف، نقلاً عن موقع تاغسشاو الإخباري، “بدأ تحالف إشارة المرور برصيد عالٍ من التوقعات. قبل انتخابات 2021، كان مفضلاً لدى جميع الناخبين تقريباً، وقدّم نفسه كائتلاف تقدمي”.
حينها كان للائتلاف أهداف طموحة، حُددت في اتفاق الائتلاف. منها تعزيز العدالة الاجتماعية، وسياسة مناخية متقدمة، والاستثمار في مجال الرقمنة، وكان هناك شعور بالتجدد بعد ما يقرب من عامين من جائحة كورونا. وأظهرت أولى استطلاعات الرأي بعد بدء عمل الحكومة معدّلات رضا مرتفعة، تراوحت آنذاك بين 38% و56%، وهي مستويات لم تصل إليها سوى حكومتي ميركل الأولى والثالثة في بداياتهما!
حرب أوكرانيا: تغيير الأولويّات السياسية
بدأ التراجع بعد 24 شباط/ فبراير 2022، عندما غزت روسيا أوكرانيا. ما أدى إلى تغييرات جذرية في سياسات الائتلاف، خاصة المالية منها. وكما توضح خبيرة العلوم السياسية يوليا روشنباخ من جامعة برلين الحرة لموقع تاغسشاو: “الأزمات تتطلب استجابات فوريّة، وهو ما يتعارض غالباً مع عمليات التغيير المجتمعي طويلة الأمد”!
قبل الانتخابات البرلمانية 2021، كان 33% من الألمان يعتبرون التغيّر المناخي القضية الأهم التي يجب على الحكومة معالجتها. لكن مع اندلاع الحرب، تصدّرت قضايا أخرى المشهد، مثل السياسة الخارجية والسلام، وأمن الطاقة، والتضخم، والهجرة!
قانون التدفئة: أول أزمة كبيرة داخل الحكومة
اضطرت حكومة شولتس إلى الاستجابة للحرب عبر تخصيص 100 مليار يورو للجيش الألماني، والبحث عن بدائل للغاز الروسي، وتحمل أعباء ديون جديدة. ولكن هذه التدابير زادت التوترات الداخلية، خاصة بسبب “كبح الديون”. ووصل الخلاف داخل الحكومة إلى ذروته مع قانون التدفئة، حين سُرّبت مسّودة مبكرة لمشروع القانون إلى الصحافة، ما وضع الحكومة في موقف مُحرج!
كان الهدف من القانون هو الحد من استخدام أنظمة التدفئة العاملة بالنفط والغاز لصالح بدائل أكثر مراعاة للمناخ. لكن النقاشات العلنية حوله أفقدت الائتلاف ثقة الجمهور. وفي حزيران/ يونيو 2023، أعرب سبعة من كل عشرة ألمان عن قلقهم من أن هذه الإصلاحات قد تُشكّل عبئاً مالياً كبيراً عليهم، بينما قال 20% فقط إنهم يشعرون بأنهم حصلوا على معلومات كافية عن المشروع.
الضربة القاصمة: قرار المحكمة الدستورية بشأن الميزانية
بحلول حزيران/ يونيو 2023، تراجعت معدلات الرضا عن الحكومة من 46% إلى 20%، وصرّح 79% بأنهم غير راضين أو غير راضين مطلقاً. لكن الحدث الأكثر تأثيراً كان في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، عندما قضت المحكمة الدستورية بعدم قانونية جزء من سياسات الميزانية الحكومية، ما أدى إلى تفاقم الانقسامات داخل الائتلاف.
وفي الأسابيع الأخيرة قبل انهيار التحالف، احتد الجدل حول النهج الاقتصادي للحكومة، وتبادلت الأحزاب الثلاثة الاتهامات بشأن المسؤولية عن تفكك تحالف “إشارة المرور” الحاكم. وفي خطوة مفاجئة، أقال شولتس وزير المالية كريستيان ليندنر في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، متجاوزاً الديمقراطيين الأحرار في المواجهة السياسية.
تراجع شعبي غير مسبوق للقادة الحكوميين
خسر شولتس 36 نقطة مئوية في معدلات الرضا، وتراجع تأييده من 60% في كانون الثاني/ يناير 2022 إلى 24% في كانون الثاني/ يناير 2025، وهو أكبر تراجع لأي زعيم سياسي في هذه الفترة. أما ليندنر فقد 32 نقطة، تلاه وزير الاقتصاد روبرت هابيك بانخفاض قدره 19 نقطة.
وتظهر تحليلات استطلاع DeutschlandTrend أن هذا التراجع هو الأكبر مقارنة بالحكومات الثلاث السابقة. وفي حين تراجعت شعبية سياسيين بارزين مثل هايكو ماس (SPD) وبيتر ألتماير (CDU) في الحكومة السابقة، فإن أحد أعضاء التحالف الحالي شهد تحسناً ملحوظاً، وهو وزير الدفاع بوريس بيستوريوس، الذي ارتفعت شعبيته بمقدار 23 نقطة بين شباط/ فبراير 2023 وتشرين الثاني/نوفمبر 2024.
نهاية غير مشرفة للتحالف الثلاثي
وفي أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2024، وصلت معدلات الرضا عن الحكومة إلى أدنى مستوياتها التاريخية، حيث أعرب 14% فقط عن رضاهم عن أداء الحكومة. وتصف روشنباخ حصيلة الحكومة بأنها “متباينة”، مشيرة إلى أن أكثر من نصف تعهدات الاتفاق الائتلافي قد تحققت، لكن ضعف التواصل السياسي كان مشكلة رئيسية.
من جانبه، يرى فون ألمان أن “الثقة والالتزام بالسرية كانا أمرين حاسمين لحكومة بهذا التنوع الحزبي”. وتضيف روشنباخ أن الدرس المستفاد للمستقبل هو ضرورة تعزيز ثقافة الحوار والتوصل إلى حلول وسط، محذرة من أن “التمسك بالمواقف المتصلبة ورفض التسويات السياسية قد يؤدي إلى نتائج كارثية، كما حدث في النمسا”.