شهدت ألمانيا واحدة من أكثر اللحظات إثارة للجدل في تاريخها البرلماني الحديث. حيث أثار تصويت البوندستاغ على تشديد إجراءات الهجرة بدعم من حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) أزمة سياسية حادة. وبينما احتفل حزب البديل بالنتيجة واعتبرها “انتصاراً”. تصاعد الغضب داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) وحزب الخضر (Die Grünen) وحزب اليسار (Die Linke)، الذين وصفوا ما حدث بأنه “يوم أسود للديمقراطية”.
ردود فعل غاضبة.. “انهيار السد”!
أثار التصويت موجة من الصدمة بين الأحزاب الوسطية واليسارية. واعتبر المستشار أولاف شولتز (SPD) أن الظروف التي جرى فيها التصويت تمثل “علامة سيئة للبرلمان وألمانيا”. وأكّد أنه فقد الثقة في زعيم الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) فريدريش ميرز. أما رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي الديمقراطي، رولف موتزينيتش، فوصف هذا اليوم بأنه سيظل محفوراً في ذاكرة الديمقراطية الألمانية، وأعرب عن غضبه العميق من النتيجة.
من جانبها، قالت كاتارينا دروج، الرئيسة المشاركة للكتلة البرلمانية لحزب الخضر، إن ما حدث يمثل “نقطة تحول خطيرة”. حيث جاء تمرير قانون الهجرة بدعم من حزب يميني متطرف، وهو أمر كان يُعتبر حتى وقت قريب غير وارد في المشهد السياسي الألماني. كما وصفت هايدي رايشينك، مرشحة حزب اليسار للانتخابات الاتحادية، التصويت بأنه “كسر للسد”. وقالت إن الاتحاد الديمقراطي المسيحي “عقد اتفاقاً مع المتطرفين اليمينيين، وهو أمر لم يكن متخيلاً قبل سنوات”.
مصطلح “جدار الحماية في السياسة الألمانية”
يرجع استخدام مصطلح “جدار الحماية” في السياق السياسي إلى عام 2014، عندما استخدمه أندرياس شوير، الأمين العام لحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي آنذاك، للتأكيد على رفض أي تعاون مع حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي كان قد دخل برلمان ساكسونيا حديثاً.
ومنذ ذلك الحين، تبنت أحزاب أخرى هذا المصطلح كرمز لاستبعاد أي شراكة سياسية مع حزب البديل. ففي عام 2018، بعد أعمال الشغب في كيمنتس، شدد السياسي الأخضر جيم أوزديمير على ضرورة “بناء جدار الحماية” ضد الحزب. واليوم، ما يزال المفهوم حاضراً في النقاشات حول حدود التعاون السياسي في ألمانيا.
ميرز في موقف حرج: اعتذار ولكن دون تغيير
وفي محاولة لاحتواء الغضب، أعرب فريدريش ميرز عن ندمه لأن مقترح الاتحاد الديمقراطي المسيحي حظي بأصوات حزب البديل من أجل ألمانيا، لكنه رفض الاعتراف بأي خطأ استراتيجي. وأكد أن حزبه لم يسعَ عمداً إلى هذا التحالف. ومع ذلك، لم يكن هذا كافياً لتهدئة الانتقادات. حيث طالبه قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر بإعادة بناء “جدار الحماية” ضد اليمين المتطرف واستعادة مصداقيته كحزب ديمقراطي وسطي.
ميركل تنتقد ميرز
بينما انتقدت أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية السابقة ميرز، بسبب تصويت البوندستاغ على تشديد قوانين اللجوء بأصوات حزب البديل من أجل ألمانيا. وأكدت ميركل، في بيان نُشر الخميس، أن الموقف الذي أعلنه ميرز سابقاً بعدم السعي للأغلبية إلا مع أحزاب الوسط كان تعبيراً عن “مسؤولية سياسية كبيرة”، لكنّ التخلي عن هذا المبدأ خطأ جسيم.
وحذرت ميركل من خطورة تجاوز الخطوط الفاصلة بين الأحزاب الديمقراطية واليمين المتطرف. وشدّدت على ضرورة التعاون العابر للأحزاب لمواجهة التهديدات الأمنية، مثل الهجمات الأخيرة في ماغديبورغ وأشافنبورغ.
تصاعد التوتر في برلمان هامبورغ: تبادل عنيف للاتهامات
لم يقتصر الجدل على البوندستاغ، بل امتد إلى برلمان هامبورغ، الذي يستعدّ للانتخابات المزمع إجراؤها في 23 فبراير. حيث شهدت الجلسة الأخيرة تراشقاً كلامياً حاداً حول الهجرة وسياسات الاتحاد الديمقراطي المسيحي. افتتحت الجلسة بكلمات تحذيرية من رئيسة البرلمان، كارولا فيت (SPD)، التي استنكرت استغلال مخاوف المواطنين لتحقيق مكاسب سياسية. مؤكدة أن الجدل حول اللجوء يجب ألا يؤدي إلى تخويف الناس أو استغلال الضحايا.
وفي المناظرة، صعّد الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر من هجومهما على ميرز. حيث قال ديرك كينشيرف، زعيم كتلة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، إن رئيس الاتحاد الديمقراطي المسيحي “يقود حزبه إلى أحضان الشعبويين اليمينيين بعد 80 عاماً من سقوط الديكتاتورية النازية”. كما انتقدت جينيفر جاسبيرغ، زعيمة حزب الخضر، موقف ميرز، مؤكدة أنه “خرق وعوده السابقة بعدم التعاون مع حزب البديل من أجل ألمانيا”.
الاتحاد الديمقراطي المسيحي يدافع عن موقفه: الأمن أولًا
من جهته، دافع زعيم الكتلة البرلمانية لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في هامبورغ، دينيس ثيرينغ، عن موقف حزبه. وشدّد على ضرورة اتخاذ تدابير أكثر صرامة لمكافحة الهجرة غير الشرعية. وأكد أن حزبه لن يتعاون مع حزب البديل من أجل ألمانيا، لكنه رفض ما وصفه بـ “النفاق السياسي” من الأحزاب الأخرى، التي لم تقدم حلولاً عملية للأزمة.
أما رئيس بلدية هامبورغ، بيتر تشينشر (SPD)، فقد حذر من خطورة التقارب مع اليمين المتطرف، وقال إن “جدار الحماية” بين الأحزاب الديمقراطية وحزب البديل من أجل ألمانيا يجب أن يظل واضحاً. لكنه في الوقت نفسه أبدى استعداده لدعم إجراءات أمنية مشددة، طالما أنها تتماشى مع الدستور والقوانين الأوروبية.
البديل من أجل ألمانيا يحتفل: “شرارة العقل امتدت”
على الجانب الآخر، احتفل حزب البديل من أجل ألمانيا بنتائج التصويت. حيث اعتبر ديرك نوكيمان، زعيم الكتلة البرلمانية للحزب، أن “شرارة العقل امتدت الآن إلى الاتحاد الديمقراطي المسيحي”. وأكد أن المواطنين لم يعودوا يثقون بالأحزاب اليسارية التي “فشلت في التعامل مع أزمة الهجرة”. كما دعت أليس فايدل، زعيمة الحزب، الاتحاد إلى إعادة التفكير في موقفه من “جدار الحماية” والاعتراف بأن التحالف مع البديل من أجل ألمانيا قد يكون ضرورياً للمستقبل.
مظاهرات غاضبة أمام مقر حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي
في ظل هذا التصعيد، لم يقتصر الغضب على الأوساط السياسية، بل امتد إلى الشارع أيضاً. ففي المساء، تجمع مئات المتظاهرين أمام مقر حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في برلين، تنديدأً بتصويته المشترك مع حزب البديل من أجل ألمانيا. ورفع المحتجون لافتات كتب عليها “جدار الحماية بدلاً من الحرق العمد”، في إشارة إلى ضرورة منع أي تعاون مع اليمين المتطرف.
المقال من عدة مصادر ألمانية: Tagesschau ،NDR و Spiegel