بعد سقوط نظام الأسد في سوريا الذي استمر 54 عاماً من القمع الوحشي، ظهرت فرصة تاريخية للعدالة ولتوثيق الجرائم التي ارتكبت خلال تلك الحقبة وتقديم المسؤولين عنها للعدالة. شهدت تلك الفترة ممارسات ممنهجة من التعذيب والاعتقال القسري والإخفاء الذي طال مئات الآلاف. السنوات الأخيرة شهدت استعداداً متقدماً من قبل محامين سوريين، ناجين من الجرائم، وشبكة من منظمات المجتمع المدني الدولية.
دعمت الأمم المتحدة الجهود بإطلاق آليتين خاصتين للتحقيق في الفظائع، بينما قامت سلطات الادعاء في دول ثالثة بجمع كميات كبيرة من الأدلة. نتج عن ذلك محاكمات رائدة تستند إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية، مثل محاكمة “الخطيب” في كوبلنز بألمانيا، التي تُعد أول محاكمة عالمية لتعذيب تمارسه دولة في سوريا. رافق هذه المحاكمة المركز الأوروبي لحقوق الإنسان، مما جعلها نموذجاً لمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية.
محكمة هامبورغ تدين أحد أنصار الأسد
في تطور لافت، أصدرت المحكمة الإقليمية العليا في هامبورغ حكماً بالسجن عشر سنوات على عنصر في ميليشيا موالية لنظام الأسد. بعد إدانته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. المتهم، البالغ من العمر 47 عاماً، دخل ألمانيا لاجئاً قبل ثماني سنوات، مدعياً تعرضه للاضطهاد في سوريا. لكن التحقيقات كشفت عن هويته من خلال صور أثبتت انتماءه لميليشيا سيئة السمعة كانت تحالف الأسد، حيث ارتكب جرائم تعذيب منهجية.
وخلال المحاكمة، التي استمرت 37 يوماً، نفى المتهم جميع التهم الموجهة إليه. لكن المحكمة أثبتت تورطه في سحب الشباب بشكل تعسفي من نقاط التفتيش، وتعريضهم للضرب، وإجبارهم على العمل القسري، فضلاً عن مشاركته في عمليات تعذيب. عند النطق بالحكم، وصف رئيس المحكمة المتهم بأنه “معروف بعدوانيته ووحشيته”.
الإرهاب والاختفاء القسري في سوريا
بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011، تحولت البلاد إلى مسرح لأبشع الانتهاكات. استخدم الأسد الجيش والأجهزة الأمنية لقمع المتظاهرين، ما أدى إلى مقتل مئات السوريين خلال الأسابيع الأولى، ثم تضاعف العدد في السنوات اللاحقة.
ووفقاً لتقرير منظمة العفو الدولية لعام 2023، فإن مئات الآلاف ما يزالون ضحايا للاختفاء القسري. أشارت المنظمة إلى أن العديد من المختفين لم يُروا منذ أكثر من عقد. بينما تعرض آخرون للإعدام التعسفي والقتل خارج نطاق القانون، خاصة الناشطات اللواتي واجهن مصيراً مأسوياً.
الأجهزة الأمنية: أدوات القمع والتعذيب
كانت الأجهزة الأمنية السورية المحرك الرئيسي لعمليات القمع. اعتمد نظام الأسد على أربع وكالات استخباراتية رئيسية: المخابرات الجوية، والمخابرات العسكرية، والمخابرات السياسية، ومديرية المخابرات العامة. من بين هذه الأجهزة، عرفت المخابرات الجوية بأنها الأكثر وحشية، مستمدة قوتها من حافظ الأسد، الذي أسسها خلال فترة قيادته للقوات الجوية.
أدارت هذه الأجهزة عدداً كبيراً من السجون المنتشرة في جميع أنحاء البلاد. من بين هذه السجون، كان سجن صيدنايا العسكري على مشارف دمشق رمزاً للقمع الوحشي. اعتبرته منظمة العفو الدولية “مسلخاً بشرياً”. حيث كان السجناء يتعرضون لتعذيب يومي أدى إلى فقدان البعض لعقولهم أو حياتهم. تحدث الناجون عن معاناة لا يمكن وصفها، تشمل الإعدامات دون محاكمة والتجويع الممنهج.
إمكانيات القانون الدولي: بين الأمل والتحديات
رغم الجهود الدولية لملاحقة مرتكبي الجرائم في سوريا، تبقى العملية القانونية شاقة ومعقدة. تقدر أعداد القتلى في الحرب السورية بحوالي 600 ألف شخص، بينما يعتبر 130 ألفاً في عداد المفقودين. يعتمد نجاح هذه الجهود على عوامل متعددة، منها التزام النظام الحاكم الجديد بتحقيق العدالة، وقدرة المجتمع الدولي على ضمان استقرار البلاد بعد عقود من القمع والصراع.
إن محاكمات مثل تلك التي جرت في كوبلنز وهامبورغ، وما يرافقها من جهود توثيق الجرائم، تمثل بداية المسار نحو المساءلة. لكنها تُظهر في الوقت نفسه أن الطريق ما يزال طويلاً، وأن تحقيق العدالة للضحايا يتطلب تعاوناً دولياً واستمرارية في ملاحقة الجناة.