ليسَ من السهل تجاهل تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك في جلسة الاستماع بالبوندستاغ في ذكرى يوم السابع من أكتوبر، حين دافعت بشكل مباشر عن استهداف إسرائيل للمدنيين في قطاع غزة، مشيرة إلى أنها أوضحت للأمم المتحدة أن المواقع المدنية قد تفقد حمايتها إذا استخدمها “الإرهابيون”. جاءت هذه التصريحات صادمة لكثيرين حول العالم. إذ لم يكن أحد يتخيل أن تصل أزمة القيم في الديمقراطيات الغربية إلى تبني خطاب تحريضي كهذا من مسؤول حكومي أوروبي علناً. ورغم أن ألمانيا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حاولت ترسيخ احترام حقوق الإنسان كجزء من قيمها الأساسية. تكشف هذه التصريحات عن تجاوز خطير لتلك القيم وتُظهر كيف يُمكن لما تصفه ألمانيا “المسؤولية التاريخية عن دولة إسرائيل اليهودية” أن تطغى على المبادئ الإنسانية.
انتقادات لتصريحات بيربوك
إن هذه التصريحات تطرح بالطبع تساؤلات عميقة حول ازدواجية المعايير في السياسة الألمانية. فقد انتقدت ألمانيا ومازالت بشدة روسيا بسبب انتهاكاتها لحقوق المدنيين في أوكرانيا. بينما تُبرر وتغض الطرف عن انتهاكات إسرائيل المشابهة ضد الفلسطينيين. على مواقع التواصل الاجتماعي، عبّر كثيرون عن صدمتهم، مشيرين إلى هذا التناقض الواضح. إذ علق أحد المستخدمين على منصة تيك توك مثلاً قائلاً: “كيف يمكن لوزيرة تعتبر بوتين مجرماً بسبب جرائمه ضد المدنيين في أوكرانيا أن تبرر قصف المدارس والمستشفيات في غزة؟” وحتى مقررة الأمم المتحدة الخاصة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، انتقدت تصريحات بيربوك وطالبتها بتقديم أدلة على ادعاءاتها حول استخدام حماس للمدنيين كدروع بشرية. في إشارة منها إلى غياب الوضوح والشفافية في هذا النوع من التصريحات، التي تستخدم لتبرير عمليات عسكرية ضد المدنيين الفلسطينيين.
تجاوز للقانون الدولي!
من منظور قانوني، تُعد تصريحات بيربوك انتهاكاً واضحاً لمبادئ القانون الدولي. حيث تنص اتفاقية جنيف الرابعة على ضرورة حماية المدنيين حتى في حال استخدام البنية التحتية المدنية لأغراض عسكرية. إن تجاوز هذه القواعد لا يُعتبر فقط تطبيعاً لاستهداف المدنيين، بل يُشكل أيضاً تهديداً خطيراً للمنظومة القانونية الدولية بأسرها. في هذا السياق، ألم يكن من الأفضل لألمانيا أن تعزز قيمها الإنسانية؟ وأن تدعو إلى حلول تراعي حماية حياة الأبرياء، بغض النظر عن هوية الأطراف المتنازعة؟ علاوة على ذلك، تُثير التبعية الألمانية غير المشروطة لإسرائيل تساؤلات عميقة حول الالتزام بالمبادئ الديمقراطية، خاصة في ظل معارضة نسبة كبيرة من الشعب الألماني لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل. ورغم هذه المعارضة، وافقت الحكومة الألمانية في الأشهر الثلاثة الأخيرة على صادرات عسكرية تتجاوز قيمتها 100 مليون دولار، وفقاً لبيانات وزارة الخارجية الصادرة في 23 أكتوبر/تشرين الأول. مما يعكس تجاهلاً واضحاً لرغبة الشارع الألماني ويفضح التناقض بين القيم المُعلنة والسياسات الفعلية.
الأمل بالجيل القادم
من الواضح أن ألمانيا الحالية لا تزال بعيدة عن التحرر من تبعيتها غير المشروطة لإسرائيل. فالجيل الحالي من الساسة يبدو عاجزاً عن مراجعة موقفه الراسخ في دعم إسرائيل. بل لا يجرأ أصلاً لأن تهمة معاداة السامية جاهزة. وكأن اللحظة الراهنة تشكل فرصة ذهبية لألمانيا لتكفر عن ذنبها في المحرقة، ولو على حساب الفلسطينيين الذين يدفعون الثمن بدمائهم وبسلاح ألماني، وعلى نفقة دافعي الضرائب أنفسهم. يبقى الأمل معقوداً على أن ينظر الجيل الألماني القادم إلى هذه التبعية بعيون مختلفة. ويدرك حقيقة الظلم الذي يعانيه الفلسطينيون، ويفهم أن إرساء العدالة لا ينبغي أن يكون على حساب الشعوب الأخرى.