منذ عدة أيام وأثناء عودتي مع ابنتي من روضتها صرخت لي عدّة مرات: “ماما شيبيني!” لم أفهمها في البداية. وكان عليها أن تكرّر العبارة بغضب وهي تقف على دراجتها رافعة قدميها عن الأرض حتى استطعت استيعاب ما تريد. فهي تعني أن عليّ أن أدفع دراجتها لكنّها طوّعت فعلاً ألمانياً ودمجته مع نون الوقاية وياء المتكلم بصيغة الأمر. فـ schieben تعني دفع الشيء أو جرّه ومنه جاء فعلها شيبيني. ضحكت وقتها من قدرة ابنتي على استخدام اللغتين معاً وهي ليست المرة الأولى التي تستعين بها باللغتين العربية والألمانية معاً لترميم نقص المفردات لديها. كأن تسألني مثلاً: في أي Tag سنذهب إلى المسبح؟ وتقصد به: اليوم.
“ال” التعريف تناسب كل الكلمات
ولا يقتصر الأمر على التبديل بين اللغتين. فأداة التعريف الخاصة باللغة العربية حاضرة دائماً ليس في حديثها فحسب، بل في حديثنا أيضاً. ونضيفه بشكل تلقائي إلى كل الكلمات التي نقولها بالألمانية. فحين يسمع أحدنا عبارة “أنا ذاهب إلى الـ Lidl أو أريد أن ألحق الـ S-Bahn. أوتكلّم معي موظف من الـ جوب سنتر” مثلاً يعتبر الأمر بديهياً. وينطبق الأمر على ضمير الملكية كذلك والذي يناسب كثيراً من الكلمات الألمانية. فلا ضير من استخدام الكبار والصغار لكلمة “أورلاوبي” أي عطلتي أو “دوزتي” بدلاً من علبتي.
طغيان اللغة العربية وهوس التعريب
ويبدو أن التداخل بين اللغتين أمر طبيعي وبديهي لدى الكبار والصغار الذين يجدون في ذلك حلّاً معقولاً لسد الفجوة بين اللغتين. فالأطفال الذين ولدوا هنا أو وصلوا صغاراً يكون مخزون كلماتهم غير مكتمل. ومع الانغماس التام باللغة الألمانية في المدارس وأحاديث الأصدقاء وبرامج التلفزيون يبدو التنقّل بين اللغتين أمراً تلقائياً. أما بالنسبة لنا نحن الكبار فالأمر مدروس أكثر، لأن مخزون اللغة اليومية مكتمل لدينا. وطرأت عليه مفردات ومصطلحات لم نعتد استخدامها. فقررنا عامدين تضمينها ضمن كلامنا مع بعض الإضافات كما ذكرت سابقاً.
مصطلح أجمع على تصريفه الجميع
جميعنا يعرف كلمة Anmeldung والتي تعني التسجيل، فنحن نحتاجها في كل مرة نسجّل فيه في المكاتب الرسمية أو لحضور مؤتمر أو حفلة حتى. ولأننا نستخدمها كثيراً سمحنا لأنفسنا لا أن نعرّبها فحسب، بل أن نصرّفها أيضاً. وأقصد هنا استخدامها كفعل في جميع حالاته وكمصدر أيضاً. فنقول مثلاً: نحتاج إلى ملدنة، علينا أن نملدن، ملدنتُ من أجل مكتب شؤون الأجانب وغيرها الكثير من الصيغ. لكنّ هذا المصطلح جديد وربما يخصّ موجات اللجوء الأخيرة. ورغم أن هناك أجيالاً سابقة تعيش منذ عشرات السنين في ألمانيا. فقد أثار استغراب صديقة لي، تعيش هنا منذ حوالي خمس وعشرين سنة، وضحكت كثيراً عندما سمعتني أقوله.
جذور التعريب والبعد السياسي
قد يبدو الأمر عادياً ولا يحتاج إلى الكثير من التفكير، لولا أنّ جذور التعريب عميقة ومحفورة في ذاكرتنا. وطال كل مصطلح أو كلمة مررنا بها أثناء سنوات دراستنا، بدءاً من أسماء الدول الأجنبية إلى المصطلحات العلمية والرياضية. وفي سوريا مثلاً أخذ التعريب بعداً سياسياً وكان وسيلة لطمس التنوّع الذي تتميّز به سوريا. وأكثر من طاله هذا الإقصاء الذي اختبأ وراء التعريب هي اللغة الكردية. بينما تعرّضت اللغة الأمازيغية في شمال إفريقيا إلى التهميش أمام المدّ القومي العربي الذي اجتاح المنطقة.
الألمنة مصطلح معروف أيضاً
وكما أن هناك مصطلحاً يشير إلى التعريب يجد من يبحث كلمة Germanisierung والتي تعني الألمنة. ويقصد بها كإشارة إلى طغيان الشعب الجرماني وثقافته ولغته. والذي يمكن أن يحدث بالعنف أو سلمياً. أي بالتحول أو قمع الثقافات واللغات الأخرى. ويعود المصطلح إلى العصور القديمة. لكنه اتخذ بعداً سياسياً إقصائياً في العصر الحديث أيضاً. وكجزء من السياسة العرقية اتخذ الاشتراكيون الوطنيون إجراءات ضد الأشخاص والمؤسسات من الجنسيات والثقافات غير الألمانية. خاصة في الأراضي الشرقية التي احتلوها وحاولوا استيعابهم أو طردهم أو إبادتهم.
وأمام طغيان اللغة وعنجهيتها لا بدّ من السؤال: هل سينتصر التعريب أو الألمنة؟ أو أن الأجيال القادمة ستجد لغة مهادنة تستوعب جميع اللغات على تعدّد مشاربها؟